Friday, April 17, 2009

عندمـــــــــــــــا مـــــــــــــــــات

عندمـــــــــا مــــــــــــــــــــــــات
طارق عميرة - قصة قصيرة

كانت الأشجار تبدو مخيفة للغاية عندما تراها من بعيد على ضوء القمر، تبدو ككيانات سوداء عملاقة ترهب كل غريب لا يعرف ملامح الطريق وتضاريس أشجاره..
وعلى مساحة واسعة من الأراضي تتبعثر عدة أكواخ من الطين اللبن أو الطوب الأحمر العتيق. كان عدد الأكواخ كبيرًا حتى إن القرية أدرجت في قائمة قرى المحافظة..
كانت القرية قد اعتادت الظلام طول الليل إلا من أضواء القناديل أثناء الصلاة أو داخل المنازل إلا لضرورة قصوى، وقد كان سكان معظم هذه الأكواخ هم كبار السن، فكل الأجيال التالية لهم من أبنائهم وأحفادهم قد هجروا الحياة في القرية الصغيرة ونسوها.
وقد كان سالم أحد هؤلاء الكبار بل كان من أشهر عجائز القرية، كان يصلي فروضه في أوقاتها وكان أشد ما يحافظ عليه من فروض هو صلاة الفجر حتى إن القرية بأكملها كانت تعتمد عليه دائمًا في إيقاظها بصوته الرائع وهو يؤذن ويملأ الفضاء والمساحات الساكنة المحيطة بالأكواخ.
وقد كان سالم بعد عودته من صلاة الفجر يوقظ البعض ممن عهدوا إليه بهذه المهمة، كانت أنفاسه ثقيلة وجسده بالغ النحول والوهن بفعل السن فقد كان يتجاوز الثمانين عامًا بقليل، ولكن عقله كان متقدًا دائمًا ولم يبد خرقا أو كسلا وكأن التغير قد مسّ شكله فقط من الخارج.
دخلت الكهرباء إلى القرية..في خطة حكومية وفي إحدى المرات النادرة أخيرًا امتدت تلك الأسلاك الناقلة للتيارات الساحرة عبر فضاء القرية.
ورغم أن فرحة الأهالي كانت عاتية إلا أن قداسة الظلام في الليل لم يجرؤ أحد من الأهالي على هتكها بمصباح صغير يضاء، كانوا قد اعتادوا الظلام في الليل وألفوه وأنسوه، لهذا لم يستطيعوا جعل النور بديلا له، يكفي الضوء الخافت للقمر في بعض الأحيان.
كان أول مصباح يضاء في القرية ليلا عند صلاة الفجر وقد كان هذا المصباح هو مصباح العجوز سالم والذي يخرج مختارًا أحد مساجد القرية الصغيرة ليشدو بالأذان هناك.
وفي هذا اليوم أضاء العجوز المصباح وخرج إلى أحد المساجد النائية في القرية، وحين انتهى من الأذان وبدأ الناس في المجيء لاحظ تغيب أحد الرجال الذين كانوا مواظبين على الصلاة في هذا المسجد، بعد الصلاة سأل أحد أصدقائه من المصلين:
- أين عم جلال؟..
قال الصديق:
- لا أدري، ربما صلى في المسجد الآخر، كان يحدثني بالأمس عن أنه يود تغيير المسجد لما يقوم به الغمام من تطويل.
شكره العجوز ومضى عائدًا إلى منزله، اعتاد أن يترك المصباح مضاءً حتى تحين لحظات شروق الشمس، وعندها يغلق المصباح بعد أن يكون قد قرأ الكثير من الأذكار ويجلس ليتأمل مشهد الشروق.
مرّت أيام كثيرة والعجوز يضيء مصباحه عند الفجر حتى غيّر عادته فجأة وأضاءه ليلا..
للمرة الأولى في تاريخ أهل القرية البائسين يبدد مصباح الظلامَ بهذه الاستمرارية والقرب، لهذا فقد تشاءم الجميع من الأمر في البداية ولو كان العجوز شابًا أو غير محبوب لكان قد جنى آلاف المشاكل بسبب هذا المصباح المضاء ليلا!
كانت بعض بيوت القرية تستخدم الإضاءة ليلا داخل المنازل فرحين بالتقنية الجديدة لكنهم لم يحبوا تبديد ستار الظلام الدائم قط بالخارج فقط كان مصباح العجوز هو المصباح الوحيد الذي يضاء ليلا لهذا بدأت تسري بين أهل القرية كراهية صامتة للعجوز الذي بدد الظلام وقهره ويستمر في هذا رغم أن أحدًا لم يشاركه هذا الفعل.
كان فعل العجوز شاذا بالنسبة لهم، لهذا صارت كراهيتهم له في ازدياد يومًا بعد يوم وبعد كل ليلة تضاء بمصباحه الكهربائي المشئوم، فكروا في تحطيم المصباح، ولكن تبديله هو أسهل شيء.
كان العجوز سالم يشعر بما تكنه له القرية من شعور ولكنه استمر في إشعال مصباحه..
كان له صديق يلقاه كل فترة من الأيام، قال له في اللقاء الأخير:
- لو أشعلوا النار فيّ لن أطفئه..هو منارة في الطريق ونعمة من الله!..لهذا سيظل يبعث هذا الضوء كل ليلة حتى أموت!
يسير العجوز سالم كعادته إلى صلاة الفجر:
-ألم يحضرْ عم جلال؟..

-كلا يبدو أنه يصلي في مسجد آخر.
هكذا أدى سالم صلاته وعاد إلى منزله ليطفىء المصباح بعد أن يتلو أذكاره وتبدأ الشمس في مد أشعتها، وفي اليوم الثاني والثالث لم يأتِ عم جلال أيضا..لهذا فلم يتعجب كثيرًا حين وجد اسم عم جلال يتردد عبر مكبرات الصوت مقترنا بإعلان عن وفاته، فقط شعر بالحزن يتخلله وبللت دمعة وحيدة خديه، لقد اعتاد الموت كما اعتاد أي شيء آخر، ثمانون عامًا؟ كم مات فيها من الأحباب؟
وبعد صلاة الظهر من ذلك اليوم كان العجوز يتقدم جنازة صديقه، وينظر بازدراء إلى أبنائه وأحفاده الذين أتوا للحضور وكان يتساءل في أعماقه عن الذي أتى بهم الآن..
لقد كان عم جلال يعيش وحيدًا رغم أن له سبعة أبناء، لكن ثلاثة منهم بالخارج وبالتأكيد لم تصلهم الأخبار بعد، بينما يعيش الباقون في المدينة القريبة ولكن أحدًا لا يفكر في زيارته منهم إلا كل حين، ربما تمنعهم مشاغلهم حقا، وربما يمنعهم الملل..
لا أدري لماذا يصل الأبناء آباءهم حين يكبرون في السن وينسون أنهم أصلهم ذاته!؟..
ربما الألم..سميحة العجوز تركتها ابنتها لا تطيق صرخات الأم المريضة بشيء ما في بطنها..
مضى العجوز في صمت الجنازة الذي لا يقطعه سوى صوت الخطوات المهرولة والأفكار المتدفقة في رأسه والتي ستجعله يقتل ابنه المتوفى بعد قليل، ولكن غليانه سرعان ما هدأ بعد أن استقر اللحد في قبره وبدأت الألسنة في الدعاء، وتلاوة بعض الآيات القرآنية. لحظات وبدأ الحضور في الانصراف، لحظات أخرى وانتهى كل شيء..
عاد عم شوقي والحزن يملأ قلبه، لقد مات عم جلال وظل ميتا لثلاثة أيام دون أن يشعر به أحد، وهو ليس الحالة الأولى، إن معظم كبار السن الوحيدين في البلدة يموتون بذات الطريقة، وهو يخشاها كثيرًا، يخشى أن يظل جثة تنتظر الحساب.
اجتمع مع عجائز القرية وفكروا في أن يتطوع شاب من شباب القرية بالمرور على منازل الكبار يتفقدها حتى يمكنهم العلم بخبر الوفاة في وقته على الأقل..
ولكن فسدت الفكرة لأن كل شباب القرية لا يحب الالتزام بل يسعى للخروج منها إلى حيث المدينة وقمة الحضارة بالنسبة لهم. كان يتعجب كيف أنهم يرفضون إضاءة المصابيح في قريتهم وكأنها دنس بينما كل شيء ممكن في المدينة!
كان السبب الآخر لعدم تنفيذ الفكرة هو أن بعض الكبار يسافرون أحيانا وعادة ما يكون سفرهم مفاجأة وفي معظم الأحيان اعتادت القرية هذه الأسفار فلم يعد أحد يكترث لغياب عجوز له أبناء في المدينة أو يسافر لعمل معتاد أو يتغيب لفترات.
فؤاد شخص غير سوي فرغم أنه يفعل كل الموبقات الممكنة إلا أنه يردد كثيرًا أنه يريد تحطيم مصباح عم سالم لأنه يهتك ظلام القرية!، كان عم سالم متأكدًا من أنه يريد تحطيمه لأنه يمنعه من الجلوس في الشارع وفعل ما كان يفعله مستترًا بالظلام..
في تلك الليلة جاء ويبدو أن عقله قد ذهب إلى نزهة ليقف على باب عم سالم ويبدأ في السباب..
لحظات وتناول حجارة قذف بها المصباح فلم تصبه، كان العجوز سالم بالداخل ينصت في برود وكأنه لا يسمع شيئا بينما توالى السباب وصوت قذف الحجارة، ثم سباب آخر، سمع صوت خطوات فؤاد السكير تبتعد واضحة في الليل..
خرج إلى الشرفة فوجد المصباح كما هو لم تصبه رميات فؤاد وإن كان قد أسرّ في نفسه أن يلقن هذا البلطجي درسًا لن ينساه..
جمع الحجارة التي تناثرت في شرفته وألقاها في الشارع مرة أخرى ودخل إلى داخل المنزل يستريح على إحدى وسائده التي يضعها للجلوس حتى يشعر براحة في ظهره..جلس ينتظر صلاة الفجر والصباح، عندها سيؤدب ذلك الحقير فؤاد..
وحين بدد ضوء الصباح أجواء القرية وبدأ الناس في الخروج تساءلوا عن السر الذي يبقي مصباح العجوز مضاءً حتى الآن للمرة الأولى..
انتشر خبر ما فعله فؤاد في القرية وتلقى توبيخا شديدًا من الجميع وأجبروه على السير معهم حتى يعتذر إلى العجوز، وعندما أتوا به عادوا فقد خيبت آمالهم إذ كان المصباح مازال مضاءً..
كانت القرية تسير حزينة كعادتها كلمها شيعت جثمان أحد عجائزها، ولكنهم كانوا يفكرون أثناء سيرهم في الإهانة التي تلقاها العجوز سالم قبل وفاته..
لقد توفي في ذات الليلة، وفي الليلة التالية، كانت جميع الشوارع القرية مضاءة..
لكن أهل القرية حتى اليوم لا ينسون إطفاء المصابيح مع أضواء الصباح الأولى.


0 Comments: