Wednesday, July 14, 2010

ميرفت

حين تكون حبيبتك نموذجًا أنثويًا فريدًا كما تحب أن تكون فلا بد أن اسمها هو ميرفت ..
عليه أن يكتب نظريته العبقريّة تلك حتى لا ينساها , كثيرًا ما تخيّل أن حبّه لميرفت جعلَ منهُ شاعرًا أفضل من عنترة .
ينظرُ حوله ويتبسم .
لا تُوجد ميرفت الآن , ميرفت في المدينة حيث يعملُ الجميع في ألمٍ وصمت أو ينزوون في منازلهم .
لا يدري كيف يشعرُ بالإشتياق إليها إلى هذا الحد وأمامه على البعد يرفرف علمٌ إسرائيلي في موضعٍ ليس له , ولم يعترف يومًا به , سيناء .
يذكرُ الوحشة الشديدة التي إكتنفته في أيامه الأولى هنا , حيثُ كان يجلس بكامل عتاده منتظرًا أي أمر , كان يستشعر خوفًا من الظلام الحالك ليلاً خاصةً وأن سبل الإتصال بالعالم الخارجي مقطوعة عدا القيادة العسكرية لكتيبته والأماكن التي تخيّم فيها .
" طيران .. طيران "
يهتفُ بهَا أحد زملاءه فينبطح الجميع أرضًا وهو من بينهم , الطيران الإسرائيلي إعتاد إختراق الأجواء بسهولة , بعد قليل ستنطلق صواريخ وسيفوز الباقي على قيد الحياة لينتقل إلى نقطة أخرى وجولة أخرى .
يلامس وجهه الرمال فيتذكر أنه صار جزءًا منها , ذرة بشرية عملاقة في صحراءٍ تحولت إلى ميدان للقتال .
يتساءل : هل تعرف ميرفت مذاق حبّات الرمل الصلبة ؟
أزعجه الخاطر وسرّه أنها لن تعرفها إلا وهي تمسح وجهه الذي إعتاد معانقة حبيبات الرمال الملتهبة.
هل هذهِ يدهَا البيضاء المرمرية التي تداعب وجهه ؟ , هنا في الصحراء والطائرات الإسرائيلية فوق الرؤوس , يسمع صوت إنفجارٍ مدوِ فيلتفت ناحيتهُ في برود , تساءل لماذا يبدو له صوت الإنفجارات معتادًا كتغريد العصافير , لا خوف , لا ألم , لا قلق , هذه نزهة وليست حرب ..
بينما تتحسس ميرفت وجنتيه يرفع وجهه من الرمال وينهض متكئًا عليها ببطء , ينظرُ إلى السماء فيحصي طائرتين , يتحسس خطواته وهو يتأمل النيران المشتعلة قريبًا منه محاولاً إستنباط أي إصابات , هو ذا مدفعه حيث تركه , كان يجب عليه ألا يبتعد عنْه .
يحدد هدفه بدقة , ويشق صاروخه السماء مصيبًا هدفه وصانعًا دائرة من الأشلاء لإحدى الطائرتين , في نفس اللحظة التي إقتنص فيها صاروخان لزملاءه الطائرة الأخرى .
يلقي مدفعه وينظر حوله , لا يوجد توتر , إذن لا شهداء هنالك , هكذا جلس في موضعه ينتظر أن يحدث أي شيء آخر .
لم يعد الدم يقلقه , هكذا كتبَ إلى ميرفت , صار يشعر أنه لم يولد إلا ليموت هنا , هنا حيثُ كل شيء لا يساوي شيئًا , الحياة ذاتها لا تساوي شيئًا إلا تحديد معنى النصر أو الهزيمة .
ميرفت تمسك كفه بيدها , تعانقه أصابعها فيشعر بخدر بطيء يتوغل في خلاياه , يستشعر البرودة في لمساتها حتى يكاد يرتجف , يعود إلى الواقع وهو يعرف أنه لا معنى فيه للدفء .
( ماذا ستفعلين يا ميرفت إذا علمتي أنني الآن صمت خمسة أيام فقط و افطرت البقية , غدًا هو اليوم العاشر , أنا لا أطيق العطش يا ميرفت , لا أطيقه أبدًا وأنا أدفن جثث زملائي وأضع لها شواهد أكتب نعيها بنفسي , أعرفُ تمامًا كما تعرفين أن شهر الصوم لن ينقضي إلا وأنا شاهد بجوار هؤلاء , وإلا فلماذا أنا هنا ؟
لا أعلم لماذا أنا هنا , جئنا ليموت بعضنا ونقتل بعضًا منهم , ربما يا ميرفت ستكون الأمور قد تكشفت لكِ حين تصل إليك رسالتي هذه .
إذا وصلتك هذه الرسالة , فستصلك بعد العيد , وإذا لم أجيء أنا في العيد فربما لا آتي أبدًا.
لستُ حزينًا ولا أشعر بثمن لحياتي , ولكنني كنت أتمنى لو حدث هذا وهذه الأرض حرة , أنا كما يقول الشعراء أرى مصرعي وأمشي إليه بخطوات مسرعة , المهم أن يكون لهذا نتيجة).
يضع قلمه ليتأمل رسالته قليلاً قبل أن يمسك به ليكتب مرةً أخرى :
( أتعلمين يا ميرفت أنك معي هنا دائمًا , أجدك بجواري في كل مكان أذهب إليه , عندما أغمض عيناي لا أرى سواكي , وعندما أفتحهما تبدد صورتك كل الوحشة والتيه اللذين أشعر بهما وسط هذه المساحات الصفراء الشاسعة .
حين أمسك سلاحي يا ميرفت يدفعني للضغط على زناده بكل حزم أن يدك تتلمس يدي المتأهبة , أخشى أن تصيب طيفك شظية أو رصاصة , وهذا يدفعني للموت في سبيل النصر والبقاء حيًا , لم تغيبي عني يومًا يا ميرفت ..
فقط هذا لا يغنيني عن أنني لا أعرف شيئًا عنكِ الآن , وهو شعور كريه لا شيء أسوأ منه سوى أنه بعد أيام لن نعرف شيئًا على الإطلاق , لن نكون هنا لنعرف.
أتركك الآن يا ميرفت لأتابع المسير , ربما أواصل الكتابة لكِ وربما أرسل لكِ هذهِ الرسالة كما هي , وربما لا تُرسل , فكما قلت لك ..
أشعر بك هنا معي دائمًا )
يبدأ السير هو ورفاقه , يسيرون طويلاً حتى ينامون , ساعات قليلة بعدهَا طلع النهار فتابعوا المسير ..
لم يصدق ما يسمعه وهو يسمع الأمر بالعبور , عبور خط بارليف السد الأسطوري المنيع , ولكن الأمر كان واضحًا , هكذا يكون للموت فائدة ..
يسير وسط الماء و هو يسمع صوت موجههم :
- عدّوا , زي ما وديتكم هجيبكم تاني .. عدي
يعبر بينما ميرفت تحلق فوق رأسه طائرة , هل زملائه محظوظون مثله أم أن آلامهم أخرى ومشاكلهم أخرى ..
يفكر أنهم يقاتلون مثله وأفضل , يحاربون أبرع منه وهم أكثر منه خبرة , يرى الطائرات المصرية المقاتلة تحلق من فوق رأسه بإتجاه معسكرات الأعداء فيسمع صوت تكبير مدوّ .
صوت القصف يدوي بينما حرارة السماء آخذة في الإرتفاع مع النيران التي تم ضخها فيها , الأعداء قادمون بدبابات كاملة , يخرج سلاحه الأرباجيه ويصوّب .
( هيا يا ميرفت حاربي معي – إصابة جيدة يا ميرفت )
هكذا يتحرك في سرعة بعد أن تفرق عن زملاءه وتفرق كل منهم , ينتقل من مكان لآخر وهو يطلق قذائفه ومعه زميل واحد , وميرفت تحوم حوله وتسيطر على تفكيره , يوقف دبابة أخرى وهو يجزم بموت من بداخلها من عنف الإنفجار , قذيفة تنطلق نحوه فيتفاداها ليشعر بشظية عنيفة تصيب ظهره , يلتفت إلى زميله في فزع فيجده قد تحول إلى أشلاء بينما ذخيرته قد انفجرت وتشتتت .
يسقط أرضًا وهو يقاوم ولكنه يكتشف أنه غير قادر على الحركة رغم أنه لا يشعر بألم ممض , يخيّل إليه أن ميرفت ترقده على فخذيها , تمسح وجهه الغارق في العرق وخيط الدماء السائل من فمه , ترفع يدها إلى وجهه وتسبل عينيه , ثم لا يشعر بأي شيء .

2 Comments:

Anonymous said...

فقط .. توقفت عن التنفس للحظات
لا اعي شيئاً سوى كوني هناك للحظات خاطفة .. بين سطور كلماتك أستاذي !!

و لكن حسناً هُناك امر صغير .. ليكن هو مجنون ميرفت .. اراه احد مجانين عامر و لكن هذه المرة المجنون يختلف فهو لا يغني على ليلاه :)

مُتابعة قديمة .. عادت برد قد يكون الآخير لتعود إلى صمتها الأزلي !!

Anonymous said...

فقط هذا لا يغنيني عن أنني لا أعرف شيئًا عنكِ الآن , وهو شعور كريه لا شيء أسوأ منه سوى أنه بعد أيام لن نعرف شيئًا على الإطلاق , لن نكون هنا لنعرف.

مش عارفه اقول ايه غير جميله جدا وتجسد معنى الحب للحبيبه والوطن وفعلا هذا هو الحب