Thursday, February 12, 2009

الرجل الذي ابتعد!


كُتبَت في 2006م , نشرَت في بص وطل وفي كتاب تليباثي .

إهداء :

إلى روح المدون محمد عبد الحكم " الفارس الملثم " - رحمه الله

الرجل الذي ابتعد

طارق عميرة

في هذا اليوم انتهيت من عملي مرهقًا كالعادة بعد أن قضيت تسع ساعات كاملة في الاستماع إلى مرضاي وشكواهم ، فأنا أعمل كطبيب نفسي ولكن المثير أن معظم من يترددون على عيادتي غير مرضى فعليا ، بينما أقابل أنا من المرضى ما يزيد عن المائة مريض يوميًا في حياتي العامة وكلهم يصرّون على أنهم ليسوا كذلك .

بالطبع لا أستطيع أن أصارح أحدهم بما يعتمل في نفسي نحوه لأني أرغب في العودة إلى منزلي سالمًا رغم كل شيء .. ومنهم من يأتون إليّ ، يأتون لأسباب تافهة دافعها الغضب أو الضيق أو حتى وسوسة شيطان نجح فيها سرعان ما تبددت .. فاضطروا إلى فعل أشياء لم يفعلوها من قبل وهكذا يرون أنفسهم مرضى ، بينما هناك من يفعل نفس الفعل يوميا دون أن يشك في مرضه لحظة , مثل الرجل الغنى الذي سرق شيئاً غير ذي قيمة من أحد المتاجر وأتى ليخبرني بهذا وهو يعانى منه بينما يوجد البعض من أغنى أغنياء البلاد ينهبون خيرها دائما!!

وهناك آخر أتى يبكي لأنه تجرأ وسب والده للمرة الأولى في حياته وهو في غير وعيه من فرط الغضب وكان واثقًا من أن هناك خللا نفسيا شنيعا به , يبدو أنه لا يمشى في الشارع ليرى ما يفعله الشباب بآبائهم .

. إذا كان هذا هو المريض النفسي فمن هوالصحيح إذن ؟

في أثناء عودتي من عيادتي الخاصة إلى المنزل بعد أن قضيت اليوم في العمل الشاق ومنع الزائرين من الإصابة بالاكتئاب.. وعادةً استقل سيارة أجرة بدلا من أعود سائرا في بعض الأحيان .. وفى هذه المرة و أثناء عبور السيارة على نهرنا الخالد .. حانت منى التفاتة إليه ، أحسست بارتياح لدى رؤيته ، سرعان ما تبدد عندما رأيت رجلاً يلفه الظلام يقف وحيدا هناك و إن كانت وقفته ثابتة لا تبدر عنه أي حركة مما أثار ريبتي فطلبت من السائق التوقف . ونقدته أجره وأمرته بالانصراف , ثم وقفت قليلا أفكر و أقرر ماذا سأفعل قبل أن أحسم أمري وأتوجه إلى الشخص الواقف ، وقبل أن أصل إليه بدأت ملامحه تتضح من الخلف كان يرتدى بذلة كاملة سوداء اللون ويبدو شعره أسود باستثناء بعض الشعرات البيضاء التي بدأت تغزو رأسه , وصلت إليه فوقفت بجواره على بعد خطوة واحده وأخذت أتأمل النيل قليلا قبل أن أبادره بالكلام:-

- " يبدو النيل ساحرا اليوم وخصوصا بسطوع ضوء القمر عليه "

ببطء شديد وكأنه لايدرك أنني بجواره منذ زمن التفت إليّ لتظهر تفاصيل وجهه الذي كان وسيما وقورا وكان هناك ذكاء واضح بمزيج من الحزن يطل من عينيه، رغم التعبير العام بجمود وجهه وبصوت وقور هادئ قال:-

- "ربما ... ولكن ثق في أنه ليس ساحرًا دائما"

ثم عاد لوقفته الأولى ونظراته الجامدة مما جعلني أشعر بأنه لا يرغب في الحديث إلا أنني لم أستطع منع نفسي من سؤاله:-

-"كيف؟"

صمت طويلا هذه المرة .. طويلا حتى أيقنت أنه لن يجيب السؤال .. إلا أنني أصررت على موقفي ، وتدور برأسي أشياء عدة واستغرقت في التفكير حتى أفقت على صوت ضوضاء شديدة لأجد مركبا يعمل بالمحرك يشق عباب النيل أمامنا وبمجرد أن كاد صوته يختفي سمعت الصوت الوقور يقول:-

-"أخبرني أنت، هل رأيت النيل ساحرا في لحظة عبور هذا الشيء ؟؟"

فهمت مايقصده على الفور إلا أنني أجبته بعد تردد لم يطل:-

-"لم أقصد ذلك .. أقصد أنه ساحر في ذاته .. ساحر مالم تمتد إليه هذه الأشياء"

نظر لي مباشرة هذه المرة قبل أن ترتسم ابتسامة ساخرة على شفتيه وهو يتأملني قليلا قبل أن يقول:-

-"كأن هذه المراكب تسير في نهر الراين وليس هنا .. كأنك تتحدث عن نهر آخر ... لقد امتدت هذه الأشياء إلى نهرنا يا عزيزي أردت أم لم ترد ..أما النهر الآخر الذي لمتحدث فيه فيضانات .. ولم يتلوث بالقمامة ولم يدنس الضوضاء والزيوت فهو قديم ... قديم لم تمتد إليه يد بشر .. إنك تتحدث عن طفولة النيل "

ورغم أنه كان يسخرمنى في رده هذا إلا أنني أحسست بسرور داخلي لأني دفعته إلى التحدث على الأقل وبهدوء أجبت:-

-"النيل القديم هو نفسه الجديد .. ما زلت أرى كلاهما ساحرا"

ابتسم ابتسامة حزينة هذه المرة و إن كنت قد خمنت أنها بسبب إصراري على رأيي بينما قال هو :-

-"إذا كان هذا رأيك فأنت حر به , ولكنني أراه رأيا من الحماقة بحيث لا يخطر ببال الحمقى ذاتهم .. أنت تتكلم عن الجديد والقديم كأنهما واحد . . ولكنك قد أخطأت "

وصمت قليلا قبل أن يكمل:-

-"تتكلم عن الطفل والرجل البالغ كأنهما نفس الشخص , تتجاهل كل ما مر به الأخير من مصائب و ذنوب و خبرات .. بينما الطفل أياً كانت قباحة ما فعله فهو طفل .. لقد جعلت الاثنين بريئين إلا أن لحظات البراءة التي تنتاب الكبار ليست ساحرة كما تظن "

أفحمني جوابه هذه المرة فلم أستطع التفوه بكلمة و إن كنت أظن أن هناك شيء يثقل كاهله إلى حد كبير .. لقد كان كلامه موزونا ويائسا في نفس الوقت وهناك نظرة الحزن العميقة في عينيه و لكنني لم أجرؤ على سؤاله مرة أخرى خاصة أنه عاد لوقفته الأولى و شروده ، وقفت أتطلع إلى النهر الخالد قليلا وقد بدأت أفكر جديا في الانسحاب والعودة إلى منزلي ولكن رغبة شديدة في أعماقي دفعتني للبقاء وأبت عليّ إلا أن أذهب منتصرًا فالتفت إليه وتماديت في حديثي:-

-"ولكنك لو بحثت فستجد أن الطفل والرجل هما نفس الشخص .. شخصية واحدة.. الفارق الوحيد هو أن الرجل نسخة بالغة من الطفل .. ومهما أثقلته الهموم فهو نفس الشخصية التي ولد بها .. وسحره موجود في أعماقه دائما "

وكعادته صمت قليلا واستنتجت بعبقريتي المعهودة أنه يفكر، إلا أنه بعد لحظات من الصمت قال:-

-"لا أدري في أيّ عالم تعيش .. ولكن انظر إلى الناس من حولك انظر إلى النيل.. انظر إلى الأشياء .. كل هذا لن يعود لسابق عهده قط

"وصمت قليلاً ثم أضاف:-

-"لو ارتكبت ذنبا ما .. هل ستعود بعدها كما كنت قبلها .. حتى لو ندمت عليه وكفرت عنه .. هل ترى أنك قد تخلصت من تلوثك؟..هل ستعود إلى ماضيك خالي الوفاض ؟.. هل تستطيع ذلك ؟"

كان منفعلا في هذه اللحظة إلا أنه تمالك نفسه وعاوده تعبير البرود وهو يكمل:-

-"كما ترى .. لا إجابة لأن الإجابة معروفة .. لن تعود كما كنت , يمكنك ببساطة الذهاب إلى أي طبيب نفسي لتسأله عن هذه الأشياء "ابتسمت هذه المرة رغما عنى إلا أنني آثرت الاحتفاظ بمهنتي لنفسي وحتى لا يفهم ابتسامتي على أنها نوع من السخرية أجبته:-

-"كنت أنوي الذهاب إليه بالفعل "

نظر لي قليلا قبل أن يعود إلى وقفته الشاردة الأولى التي يبدو أنه لا يملها أبدا .. وفى هذه المرة اندفعت بسؤالي قبل أن يطيل في وقفته وقد خرج كلامي رغما عني:-

-" يبدو أنك تعانى من ذنب مثل هذا .. لا تستطيع الخلاص منه .. أليس كذلك ؟"

أجاب سريعا بصورة قاطعة

-"كلا" سألته على الفور:-

-"ماذا هناك إذن .. ما سبب الحزن في ملامحك ووقوفك هنا هكذا في هذه الساعة ؟"

كان صمته طويلاً هذه المرة .. طويلاً للغاية .. كأن سؤالي كان الأصعب في هذه الليلة الليلاء إلا أنه بعد فترة أجاب:-

-"لقد رأيت حادث تصادم اليوم ، ضحيته سبعة شهداء وعشرة مصابين"في استنكار شديد قلت:-

-"أكل هذا الحزن من أجل حادث تصادم ؟؟؟!!!!"

التفت إليّ في سرعة هذه المرة ورماني بنظرة ناريه قاسية نتيجة لاستنكاري و ثبّت عينيه في عينيّ و قال:-

-"ربما يبدو الأمر كذلك لك .. تافها لا يستحق..ولكنه مهم للغاية لي ، ربما لو فكرت من طريق آخر لكان مهما لك أنت الآخر ، إن كل فرد من هؤلاء الضحايا ليس مجرد اسم , ولم يولدوا ليكونوا في عداد إحصاءات وفيات الحوادث , كلا ، إن كل واحد منهم له حياته الخاصة , حياته الكاملة ، أسرته التي يعولها وينفق عليها وربما لايكون لها مصدر رزق سواه ، وأسرته التي تعوله وتعده ليكون شخصا عظيما لها ،هناك من له أولاد وأحلام وأشياء أخرى ربما أثرتنا كثيرا لو حقق إحداها ، وبموته سنكون قد خسرنا يداً عاملة أو مشروعاً جديداً والأدهى .. نفس بشرية أخرى .. وحياة كاملة .. هنا كحيوات لا تكفيها مجلدات انتهت في حادث التصادم هذا "

بدأت أفكر قليلاً لأكتشف أن الصواب بجانبه في كل ما قاله ولم أجرؤ على الكلام حين رأيته قد بدا يبتعد بخطوات بطيئة واستمريت في تفكيري حتى أفقت على صوت التوقف المفاجئ المزعج للسيارات ، التفت في حدة لأجد الرجل راقداً ينزف وسيارة زرقاء أمامه تجاهد للهروب ونجحت في ذلك .. وفى هدوء شديد .. التقطت أرقام السيارة ومشيت في الاتجاه الآخر للحادث وكأن شيئاً لا يعنيني ، ولكنني في الحقيقة كنت حزينا أتساءل عن حياة هذا الرجل !

11 Comments:

Shimaa Esmail said...

السيد الأستاذ/ طارق عميرة
صاحب مدونة / كوارث
" تحية طيبة" وبعد..
اعتذر عن الخروج من موضوع التدوينة، لقد أرسلت لك رسالة عبر البريد الإلكتروني تتعلق باستمارة استقصاء بيانات عن المدونات المصرية.
أرجو الاهتمام والرد سريعا بالموافقة أو الرفض.
تحياتي وتقديري
شيماء إسماعيل
باحثة بالماجستير- كلية الآداب جامعة القاهرة.

Unknown said...

الله يرحم محمد ويرحم كل موتانا...انا مكنتش اعرفه بس على العموم ربنا يرحمه ويكون مثواه الجنة.....قريت القصة حلوة اوى انا فاكرة انى قريتها زمان وفاكرة ان ردى عليها كان انها حلوة وسلسة....دايما بتبهرنى قدرتك انك تقول كلام عادى باسلوب مش عادى وفى سياق كمان مش عادى...الله ينور

قوس قزح said...

قصة جميلة وحزينة

ربنا يرحمه ويغفره

و يصبر احبابه

الازهرى said...

هناك حيوات لا تكفيها مجلدات

كنت قديما ارى الحوادث فلا تهتز فى رأسى شعرة
ولكن وبعد حادثة معينة
عرفت ان كل انسان يفقد قد يكون وراءه الكثير والكثير ممن يحزنون وتتغير حياتهم بفقده

تحياتى دوما

Gannah said...

السلام عليكم
ازيك يا طارق
رحم الله محمد الذى لا اعرفه ولم أدخل مدونته من قبل ولا أجرؤ أن أفعل الآن فهناك سأجد حياة كاملة لا استطيع ان اتوقف الآن عندها لان ذلك سيدخلنى فى نفس الحالة التى وصل اليها بطل قصتك ..تصور آماله وأحلامه ما حققه وما كان يتمنى أن يحققه
هناك هو موجود ولكننى لا أستطيع الا أن أقول رحمه الله
وهكذا استشعرت واجبى نحوه فدعوت له فى عمرتى الأخيرة وتمنيت لو استطعت ان اتحدث الى والدته ولكننى لم استطيع مواجهه حزنها عليه
القصة مظلومة جدااا
لاننى قرأتها فى تليباثى وبدت لى فى المكان الخطأ..اعتقد انها تستحق ان يعاد نشرها -اذا كان ممكنا- فى المجموعة القادمة لك ان شاء الله
هى سطور قليلة ولكنها تأمل فى حياة طويلة لا تكفيها مجلدات
ولا يصح ان تتحول الى رقم فى خبر صغير
كل انسان مهما كان بسيطا فانه يستحق منا احتراما عند رحيله ربما اكثر مما فعلنا فى حياته
كلما قرأت هذه القصة شعرت انها كانت لحظة نادرة من تجليات كاتب كبير
اللى هو انت طبعا
تحياتى

كوارث said...

شيماء اسماعيل
حاضر هبعتلك ردي بكرة

كوارث said...

انجي
الله يرحمه
شكرا على رايك وانتي مش محتاجه كلام يعني

كوارث said...

قوس قزح
شكرًا
ربنا يرحمه ..

كوارث said...

الازهري
شاكر جدا لرايك الجميل ..
الحمد لله ان اعجبتك القصة
نورتني

كوارث said...

خالتي جنة
الحمد لله تمام ازيك انتي
الله يرحم محمد ويرحم سائر امواتنا
متشكر لردك جدًا وربنا يصبر أم محمد عليه وبالنسبة للقصة فممكن اقتراحك بتنفذ ..
هحاول حاضر

DoNyA said...

هل كان هذا الشخص الشارد
يعلم ما يخبيء له القدر
ام انه كان ينظر الي قدره المحتوم امامه وهو مكتوف اليدين

كلماتك تجعلني
افقد السيطره علي افكاري

الفارس الملثم - الرجل الذي ابتعد
اسكنك الله فسيح جناته