طارق عميرة
مشكلة كبيرة يعَاني منهَا تقريبًا معظم الكتّاب الشباب سواءًا الموهوبين منهم أو مدّعي الموهبَة , وسواءًا في سوق الأدب أو الكتابَة الحرّة توجَد صعوبَاتٌ تكادُ تصُل إلى مكانة رابع المستحيلات في أن يتمكن الكاتب في نشر كتابهِ مجانًا أو بمقابلٍ مادي له في ظل هذا العصر الذي سادت فيه الكثير من الأسماء والانتاج الأدبي اللذي صار مقدمًا من المعروفين أكثر ممن يحاولون إيجاد فرصة للظهور فما الذي سيدفع الناشر للمجازفة بظهور اسم جديد ولديه من الأسماء ما يضمن له الاستمرارية بالفعل ؟ , هكذَا قلّ ظهور الأسماء الجديدَة وصرنَا نرى البعض يصعد - ويُنشر لهُ - على سلم الكتابة الجنسية والاصطدام بالألفاظ أو المعتقدات الدينية وغيرهَا مما لا يرضَاهًُ ضمير كاتبٍ حر .
أمّا عن اللذين يمتكلون الموهبة الحقيقية فربما تجدهم بين صفحَات الانترنت كثيرًا ولكن نادرًا ما تراهم على الورق , وقد رأيت بنفسي الكثير من الأدباء البارعين اللذين تقرأ لهم قصّة خيرٌ من ألفِ كتَاب .
سوق النشر أصبحَ قذرًا إلى حدّ ما كسائر الأسواق الأخرى , صرتُ أرى أدباءً وكتابًا حقيقيون ينهارُون لمجرّد أنهم لا يجدون فرصةً للنشر بينما يقع في يدي يوميًا ما لا يقل عن كتابين مثلاً أتصفحهما لأوقن تمامًا أن الأدب والكتابة صارا مزيفين كثيرًا كسائر الوسائل الثقافية , وما يحفظ ماء وجه الثقافة لدينَا هو بعض الإصدارات والكتب المتميزة من آنٍ لآخر .
أمّا عن النشرِ على نفقةِ الكاتب فيبقَى هو الحل الأمثل - غير العادِل - لمحاولة الموهوبين الجدد في الظهور ولكنّه أيضًا ليسَ بهذهِ السهولةِ أبدًا, أذكر أن احد اصدقائي نشر كتابًا لهُ مع ناشرٍ اتضّح فيمَا بعد أنّه قمّة في اللا مبالاة والاستهتار , كان العقدُ ينصّ على توزيع النسخ ثم إقامة الجرد الأول بعد عام , في لحظات الجرد الاول ذهب صديقي إلى الناشر ليجد أن كل نسخه ما زالت موجودة لديه ولم يباع منها ما يتجاوز المائة وخمسون نسخه في معرض الكتَاب , والناشر لم يهتم بتوزيع الكتاب أدنى اهتمام , وكأن الكاتب نشر في أوغندَا ومع ناشر لا يمت له بصلة وليسَ هو , هكذَا أخذ صديقي نسخه مضطرًا ومقاومًا أن يبصق في وجهِ الناشر و استطاع بقوّة غير عادية أن يسيطر على نفسه حتى لا يهشم جمجمة الناشر , قام بعدها بتوزيعهَا فرديًا ونجح في ذلك في وقت قياسي , فهل يرجع عيب التوزيع هذا إلى كفاءة صاحبي الذي استطاع التوزيع سريعًا وكان سوء توفيق لدار النشر أم يرجع لاستهتار دار النشر واهتمامها بالمادّة أكثر من اي شيء آخر حتى ولو كان مقابل هذهِ المادّة لدرجةِ أنّها لا تجد فردًا واحدًا يقومُ بما قامَ بهِ هذا الصديق ؟
هكذَا يبقى جيل الكتّاب الجدد كذئب يعوي في الوديان المقفرة ولا يسمع سوى صدَى صوتهِ , ربّما يبلغُ أقصى أمانيه أن تنشر له الجريدة الفلانية أو ينقده الكاتب العلاني ولكن بلا زيادات أو ارتقاءات تذكر في ذات معاملة أعماله من قبَلِ الناشرين .
أذكر منذ سنوات محمد سامي صاحِب دار ليلى النشر للتوزيع حينَ أطلقَ مشروعهُ الأول لتبني المواهب الشابّة بعنوان بدايات والذي قدّم للكتاب الكاتب الشهير والمحبوب د. أحمد خالد توفيق , وكان يجمعُ فيه أعمال لبعض الشخصيّات اللامعة الآن - كالعايدي ومحمد فتحي - مع بعض الكتّاب الشباب الجدد واللذين يظهرون للمرّة الأولى عبر الأوراق , كان الكتاب يحمل عنوان وطنٌ بين دفتي دفتر و قد كانت التجربة أكثر من رائعَة وهنَاك أعمال ما زالت عالقةً بذهني من قصير ما كتبَ بهذا الكتاب لمختلف الكتّاب , بعدهَا ظهرت سلسلة تحمل اسم رقم إبدَاع أو ايداع تقوم على نفسِ الفكر و لكنّ الفارق أنّهَا على نفقةِ الكتّاب ثم تم دمج السلسلتين فيما بعْد , ما يهمنّا هو أن سامي تلقي هجومًا عنيفًا ونقدًا قد لا يحتمَل لمجرّد أن الأعمال - على نفقةِ الكتّاب - ورغم أننّي أرى التجربة متميزة للغاية فهؤلاء مجموعة من الشباب أرادوا فرصة للظهور عبر الورق ووفرتها لهم هذهِ الدار , وساهم كل منهم بمبلغ ضئيل لتكوين تكاليف الكتاب , ولا نهملُ هنَا أن الدار كانت بحاجة إلى دعم مادي رهيب على الأقل لمنافسة غيلان الساحة الأدبية والكتابية في مصر أو محاولة المنافسة على الأقل ولكن أحدًا لم يرحم طموحُ الناشر الشاب ولا امكانياته المحدودَة .
واجهَت دار ليلى بعدهَا العديد من المشاكل والصعوبَات , منهَا الطبيعي والذي لا بد من تجاوزه للعودة أكثر قوّة ومنها بعض محاولات للقضاء عليها من اسماء لا يستهَانُ بهَا , ولا أدري هل نجحَت هذهِ المحاولاتُ أم لا ولكن اختفاء الدار من على الساحة تقريبًا يجيب عن هذا التساؤل .
ناشرٌ شابٌ آخر يواجه الآن صعوبًات لا حصرَ لهَا , هو يحيى هاشم صاحب دار اكتب للنشر والتوزيع والتي تتحدث عناوينها الآن عنها في كل مكان , سبب كتابَة هذَا المقَال أن هناك اتهامٌ عنيفٌ ومقنعٍ جدًا ليحيى هاشم بالنصب على الكتّاب الشباب , لو اتفقنَا جميعًا على أن يحيى هاشم نصّاب يحصل على تكاليف الكتب من الكتّاب أنفسهم ويقتسم معهم نصف الأرباح , فمن يفعلُ هذَا الآن سواه في سوق النشر المصري ؟
أرى أن هذا الرجل قد قدم العديد من المواهب الجديدة والرائعة وصنعَ مالم يستطع أحدٌ صنعه في زمن قياسي ولو كان قائمًا على النصب فيكفي ما صنعه للدار من اسم وكتب الدار التي صارت موجودة في كل مكان استطاع الوصول إليه تقريبًا , أرى أن حماسه لا ينقطع وتوزيعه يزداد توغلاً وتوسعًا يومًا بعد يوم , وأراهن أن يجد كاتب شاب من يعامله ماديًا وطباعةً مثل يحيى هاشم إذا ما انغلقت في وجهه أبواب عظماء السوق الأسود للأدب .
إذا كان الشرف أن يقوم يحيى هاشم بشراء جميع النسخ التي تم توزيعهَا ويعطي الكاتب أرباحًا حتى يرضى الأخير عنه فبالتأكيد سيكون النصب هو أن يبلغ يحيى هاشم أحد كتّابه بأن كتابه فشل وكأنهم جميعًا عباقرةٌ منزلين من السماء , هناك دور نشر تنشر بلا مقابل على الإطلاق , وهناك من سيعطيك خمسمائة جنيه مقابل شراء الكتاب بكامله مثلاً وهنَاك من سيطلب منك آلافًا حتّى ترى اسم الدار الناشرة على الغلاف الخارجي فأيهمَا أفضل من وجهة نظرك ؟ هل تبيع كتابك بأثمانٍ بخسة أم تبحث عن الشهرة في شعارات الدور أم ترى أن ما كتبته رسالة يجب أن تصل سواءًاعلى نفقتك أو تحت أي اسم ؟
كثيرون من الكتّاب لجأوا إلى نشر كتبهم بأنفسهم وتوزيعها , أذكر منهم أحلام مستغانمي وأسامة غريب في كتابه مصر مش أمي وعمر عفيفي في عشان متنضربش على قفاك وغيرهم و كثير من أدباء الخليج والمغرب , بعد هؤلاء الكتّاب يتعاقدون مع دور للنشر فيما بعد إذا ما اثبت الكتاب نجاحه , ولكن يبقى شرف البداية للكاتب
لماذا تتهيب دور النشر من الكاتب الجديد ؟ السبب الأول والمنطقي هو الخوف من الخسارَة !! , وبناءً عليه يتم معرفة هل العمل ملائم للنشر أم لا , تجاوز الأمر مسائل الحقد والغيرة من كتّاب آخرين وسطوة بعض الكتّاب في دور النشر إلى سطوة الناشرين أنفسهم , فصار الأدب سلعةٌ تباع وتشترى , بل والأدهى لا تمنح إلا للمختَار من قبلِ الناشر , فهل ذنب أولئك اللذين أتاحوا فرصة النشر للجميع أنهم حاولوا منافسة غيلان كبار ؟ وهل ذنب الناشرين الشباب أنهم مقربين من كتّابهم لدرجة أنهم يتحملّون إهاناتهم ؟
علاء الأسواني مثلاً أذكر أنني قرأت أنه باع ثمانية نسخ فقط من مجموعته القصصيّة الأولى , الذي اقترب فرأى , ونجاحهُ يتحدّث عنهُ الآن , أكان هذا العيب يرجعُ إلى علاء الأسواني إذًا ؟
الإجابة واضحَة , أطالب السوق الأدبية والكتابية بمحاولة القضاء على كل الناشرين الجدد , حتى يظل الوسطُ حكرًا على أسماء بعينها , وحتى يكون كل كاتبٍ جديد .. هوَ المختَار !