التّي عندَها بدأ الكوْن - قصّة قصيرة
طارق عميرة
جلسَ يُراجِعُ نفسهُ للمرّة الأولى منذُ أعوَام , أغلقَ عينيهِ لتمرّ حياتهُ أمامهُ في لحظَات ..طُفولتُه , صبَاه , وهو طالبٌ متفوقٌ فِي مدرستِه , مميّزٌ فِي جامعتِه , لحظَاتُ فرَحِه , أصدقَاءهِ القُدَامَى , أصدِقاءهِ الجدََد , لحظاتِ حزْنِه , عثراتهُ بلاَ أصدَقَاء , عثراتهُ معَ الأصدقَاء , مراهقتُه , رجُولتُه , إنطلاقتهُ فِي الحيَاة بحثًا عن كينُونتِه التّي حيرتهُ لأعوام ..
عملَ في أحدِ حقُول التفّاح , وكانَ يعملُ وحدهُ في مساحةٍ كبيرَة , لماذَا جعلهُ والدهُ يخوض التجربَة ؟ إكتشفَ في مَا بعد أن الحقلَ ملكٌ لوالدُه , عملَ في أعمالٍ مهينةٍ لمجرّد التعلّم , صارَ من أصدقاءهِ منْ صداقتهُ صداقةٌ سوء , ومن صداقتُه مثريةٌ كعقْل , وقدْ كبرَ يستطيعُ فعْلَ الكثِير , لتعلّمه أو لذكاءهِ أو لتفوّقه في دراستِهِ السابّقَة ..
تذكّر سنوَات التيهِ .. كانَ الصبّاحُ كالمسَاء , الأبيضُ كالأسوَد , الغدّ كالأمْس , هوَ الذّي يستَطِيعُ فعلَ أشياءٍ كثيرَة ولم يكُن يفعلُ أيّ شيءٍ تقريبًا , كالذّي لا وجُود لَه , لحظَات الضيّاع .. نهايتُهَا ..
هيَ ..
التّي عنْدَهَا بدأ الكونُ , وإليهَا سينتَهِي ..
هيَ ..
المالكةُ لسرّ الوجُود .. والمحتفظةُ بِه ,
هيَ التّي أشعرتهُ انّه يملكَ الكونَ كلّهُ في لحظَات , شعرَ في لقَاءَاتِهمَا بشبَعهِ من الدنيّا وإرتواءهِ مِنَ الحيَاة , جسدُهَا هوَ الأرضُ وعينيهَا السمّاء , وكلامُهَا يصنَع الحاضِرَ والقادَم ..
هيَ التّي وضعتهُ على القمّة بكلماتٍ منهَا , وفجّرت طاقَات هائلَة في أعمَاقِه بوجُودهَا , هي التي أشعرَتهُ أنّه يحيَا ..
***
قالَ لهَا وهو يتأمّل شاطيءَ نهرِِ النيل :
- أنتِ رائعةٌ في الكثيرِ من الصفّات ..
قالَت وهي تديرُ رأسهَا بينهُ وبين الماء الذي إنعكسَت عليهِ أضواءُ أعمِدَةِ الإنَارة , وتبتسمُ في خجَل :
- وأنتَ كذلِك , يكفِي أنّك ترانِي هكذَا ..
بادلهَا الإبتسَام وهو ينظرُ إليهَا يغمرهُ شعورٌ بالسعَادَة .. قالَ لهَا :
- أشعرُ بأنّك الأقربُ إليّ وخيرُ من يفهَمُنِي ..قالَت له :
- بل أتعلّم منكَ الكَثير ..
تسللّت يدهُ تحتضنُ كفّهَا الرقيق , فإضطرَبَت قبلْ أن يستكينَ كفّها في يدِه ليشعرَ بالدفْءِ يغمرَ جسدهُ كلّه , يصمتُ طويلاً وهو يتأمّل عينيهَا في إنبهارٍ ويتركْ روحهُ تتسللّ في شرودٍ إلى عالمهَا ..
***
يتذكّر بعدَ كلّ هذهِ الأعوَام , ما زالَ يذكرُ تفاصيلَ ذلك اللقاء , لون المياهُ ولمعةًُ ضوءِ أعمدة الإنارَة , الطريقُ في الجهةِ الأخرى والسيّارات المارّة في إتجاهين متعاكسيْن , يذكُر ألوان السيّارات التي عبرَت كذلك , ملابسهَا , عينيهَا اللتين تستعصيانِ على النسيّان , خصلة شعرهَا الناعمَة , الإعلان الأزرق العِملاق المثبّت على عمودٍ مستقل فوقَ الرصيف بجوارهمَا , معلبّات المياه الغازيّة الفارغَة الملقَاة أمَام الشاطيء مباشرةً , كلماتُهَا , هو الذّي تعلّم منهَا الكَثِير ..
قالَ لهَا ذاتَ مرّة :
- أنتِ لا تُدركينَ قيمتكِ الحقيقيّة في حيَاتِي , أعجزُ عن التعبير لأنّ أي كلماتٍ ستبدُو تقليديّة إن قلتهَا , هذهِ التعبيرات شائعةٌ حتّى أن الجميع لا يكفّون عن إستخدامِهَا , أفكّر في شيءٍ جديدٍ لكِ ..
قالَت :
- لا داعي , فقطْ إفعَل كما يفعَلُ الجمِيع ..
يصرّ هوَ :
- لسنَا كالجميع , لا أحتملُ حقًا فكرَة فقدْك !
قالَتْ لهُ :- وهمْ أيضًا .
قالَ لهَا :- أنتِ لا تفهمينَ مَا أريدُ قولُه , أنَا أكثرَ منْهُم , قلتُ لكِ أنّ هنَاك مشكلةٌ كبرَى هي تقليديّة التعَابِير , لهذَا لا أعرفُ كيف أصفْ , لا أعرفَ كيفَ الشرْح , أنا ...
ويصمُت قليلاً محاولاً التفكّير في شيءٍ لهَا فقَط , قبْلَ أن يقُول في إستسلام :
- أنَا أحبّك ..
تنظرُ لهُ ثمّ تقُول :
- و أنَا مدمنةٌ لَك ..
تعبيرٌ جديدٌ لهَا يتذكّرهُ الآن فما زالَ جديدًا رغمَ السنين , و رغمَ إرتباطهِ بالكثيرِ من الأشياء السيئَة ولكنّ معناهُ واضِح , لا تستطيعُ الحياة بدونِه , أم ستعَانِي في فقدِه ؟
يتأمّل هديتهَا في صندوقهَا الأسوَد الصغَير , هذَا أثرٌ لن ينمحِي قطْ , ودليلٌ موجعٌ على أنّها لن تنسَى , هل تحتفظُ بشيءٍ منْهُ وتتذكرّه كلمّا رأته ؟ لا يذكُر إن كانَ قدْ أهدَاهَا شيئًا , ترَى هل تشعرُ بإزديادِ ألمهِ كلمّا رأى هديتهَا , كان يقبّلهَا , يشعرُ بأنّه أحمقٌ لأنّه يكنّ كل هذهِ القيمةِ لشيءٍ لمجرّد أنّه كان في يدِهَا يومًا..
كانَت المنَاسبةُ هيَ يومُ مولدِه , الإحتفالِ بيومِ مولدِه الذي يعتبرهُ الآنَ يومَ وفاتِه , يومَ بدأ يستكشفُ سَرَاديبَ التيهِ الحقيقيّة من دونِهَا , قالَتْ لهُ :
- أخشَى أنّه لم يعُد ممكنًا أن أراكْ ..
جملةٌ كهذهِ زلزلَت الجبلَ الراكدَ في أعمَاقِه , كانَ سببهَا مقنعًا جدًا ومخالفتهُ تعنِي الكثيرَ من الأضرَار , هذَا الألمُ الذي يكتنَفُه , لماذَا إلتقَاهَا ؟ , لماذَا لم تعلنْ هيَ كراهيتُهَا له أو خوفهَا منْه أو حتّى مللهَا بجواره؟ , كان هذَا سيمنحهُ سببًا واحدًا لخيانَتِهَا أو النظّر لغيرهَا, لكن الظرُوف وقهْر الظُروف , هذَا يجعلُ الأمورَ أشدّ إثَارَة , يُشعلُ التحدّي للدفاعِ عنهَا , هيَ التي بدأ عندهَا كونهُ وعندهَا سينتهِي ..
***
من خطابٍ لها كتبُه في منتصف ليل اليومِ السابِعِ من الشهرِ التاسِع في عامِ الفراقِ الأول ولم يُرسلِه :صرتُ أؤمنُ باليأسِ كثيرًا ..
أتساءلُ : هل عرفتينِي ضائعًا ؟ إن لم تكونِي لاحظتِي ذلك في لقاءاتنَا المعدودَة , فأنَا أؤكدُ لكِ أنّنّي ضائِع , كنتُ ضائعًا حينَ عرفتكِ , وأنَا الآن ضائِع , لكنّ الفارق بين طبَقَات الضيّاع هو نفسهُ الفارِق بين قارتيّ القطبِ على خارطةِ كوكب الأرض .
رأيتكِ طريقًا طويلاً آمنتُ بهِ حتّى خيّل إليّ أنني أعدُو سريعًا فيه , قبل أن يختفِي دونَ أنْ أبلُغَ مالمْ يبلغهُ أحَد , سلمًا عاليًا صعدت فيه كثيرًا لأجد درجَات محطمّة , ثم يختفِي السلّم ذاته فأهوي وأهوي .. وما زلتُ أهوي حتّى الآن ..ولن يعيدَنِي من الهاويةِ شيءٌ سوَى يداكِ ..
يقرأ هذهِ القصَاصة كثيرًا , يبتسمُ لأنّه لم يرسلهَا , يفكّر مرّة أخرَى .. أعوام مرّت على هذهِ القصاصَة ..وما زالَ يهوِي ..
***
يُخرجُ صندوقه العتِيد الذي يحتفظُُ فيهِ بألعاب طفولتِه وصبَاه , يتأملّ بعضَ ألعابهِ القديمَة التي لم يعُد لها وجود في الأسوَاق , دفاتر كتبَ فيهَا أصدقاؤه , عملاتٌ من هنَا وهنَاك , مصحفٌ أنيق وجائزةٌ حصلَ عليهَا على تميزّه فِي علومِ الدين , الكثير من شهادَات التقدْير , في حنانٍ يفسحُ مكانًا صغيرًا ويضعُ فيه صندوقًا أسودًا صغِير ..
يعاودُ إغلاق الصندوق الكبير وإعادتهِ إلى قبْرهِ الذي ينهض منهُ نادرًا , يتّصل بصديقٍ لهُ لم يزرهُ منذ أشهر , يزورهُ ويتلقّى الكثيرَ من العتَاب , لكنّ أكثرَ ما بدأ يشفعُ له هوَ عودتهِ إلى طبيعته ..
قال صديقُه :
- تبدو مرحًا .. هذهِ مناسبةٌ تستحقّ الإحتفَال !
كانَ قد قرّر أن ينهِي مأساةِ هذهِ الأيّام السوداء , العالمُ كبير , العالمُ جمِيل , وعليهِ أن يلحقَ بسباقِ الحيَاة الذي أقعدته إصابتهُ عنهُ طويلاً جديدًا , هكذَا عادَ بحماسٍ يدفعهُ لهُ شعورهُ بوجوبِ المواجهَة , لن يتذكرّها ويحزن كثيرًا عندمَا يمرّ من ذاتِ الأماكنِ التّي كانَا فيهَا معًا , فقطْ سيظلّ يبتسم , لقدْ ذهبَت ولتكُن ذكرَاهَا سارّة إذن ..
شعرَ أنّه يكذبُ على نفسهِ , ولكنهُ تمادَى في كذبهِ كثيرًا حتى شعرَ أنّه يصدّق أخيرًا , جاءهُ إتصالٌ ذاتَ مرّة , فأجابَ غير متوقّع , كانَت هيَ المتصلّة , لم يصدّق أنّها تقُول :
- أريدُ أنْ أرَاك .. لقدْ ..
- تمت -
Tarek Omyrah
http://www.facebook.com/pages/-/78819648914?ref=share